ورغمَ ما تُقدِّمه من خدماتٍ ومبادراتٍ قد تبدو في ظاهرِها إنسانيَّةً وتنمويَّةً، فإنَّ التمعُّنَ في نشأتِها وتطوُّرِها وأدواتِ عملِها يكشفُ عن حقيقةٍ أكثرَ تعقيدًا من الصُّورةِ النمطيَّةِ الرَّائجةِ.
ذلك أنَّ المجتمعَ المدنيَّ ليس اختراعًا بريئًا نشأ في الفراغِ، بلْ هو ثمرةُ منظومةٍ فكريَّةٍ وتاريخيَّةٍ تعكسُ مسارَ تشكُّلِ الدَّولةِ الحديثةِ في الغربِ ورؤيتِها لدورِ الأفرادِ والجماعاتِ. ومع موجةِ العولمةِ الليبراليَّةِ، جرى تكييفُ هذا المفهومِ، وإعادةُ توظيفِه كأداةِ نفوذٍ ناعمٍ يُعادُ عبرها ترتيبُ أولويَّاتِ المجتمعاتِ الأخرى، وصياغةُ قيمِها وفقَ مقاساتٍ محدَّدةٍ سلفًا. وقد تجلَّى هذا التَّوظيفُ بوضوحٍ في البلدانِ العربيَّةِ التي دخلتْها منظَّماتُ المجتمعِ المدنيِّ، مدعومةً بتمويلاتٍ ضخمةٍ وخطاباتٍ جاهزةٍ، لتصبحَ أحيانًا امتدادًا لمشاريعَ خارجيةٍ تلتقي عند هدفٍ جوهريٍّ، وهو إعادةُ تشكيلِ العَلاقةِ بين الدَّولةِ والمجتمعِ على نحوٍ يحقِّقُ الهيمنةَ بأكثرِ صيغِها سلاسةً واستدامةً.
من هنا، فإنَّ البحثَ حولَ هذه المنظَّماتِ لا ينطلقُ من عداءٍ مبدئيٍّ لفكرةِ التَّنظيمِ المدنيِّ، وإنَّما من رغبةٍ في استعادةِ الفاعليةِ الأصيلةِ لهذا المجالِ، وتحريرِه من التبعيَّةِ القيميَّةِ والوظيفيَّةِ. فالأسئلةُ الحقيقيَّةُ التي ينبغي طرحُها تتعلَّقُ بمنظومةِ المصالحِ والقيمِ والسُّلطاتِ التي تتحرَّكُ خلفَ الواجهةِ اللامعةِ لمنظَّماتٍ تدَّعي الحيادَ والإنسانيَّةَ.
أمَّا في الواقعِ، فقدْ أظهرتِ التَّجربةُ أنَّ أداءَ هذه المنظَّماتِ كان محلَّ تساؤلٍ، حول طبيعةِ طروحاتِها، ومصادرِ تمويلِها، ونوعيَّةِ تشابكِها مع مصالحِ الدول الغربيَّةِ الكبرى. بعد مرورِ وقتٍ معتدٍّ به، بات ممكناً الحكمُ على منظَّماتِ المجتمعِ المدنيِّ، ومقدارِ الفائدةِ التي حقَّقتها في مجتمعاتِها، ونسبةِ الضَّررِ الذي تسبَّبت به.
في الإجمالِ، أمستْ هذه المنظَّماتُ عنواناً برَّاقاً من جهة، ومضموناً مشكوكاً به، من جهة أخرى. فلا يبقى أمامَها إلا خيارَين: إمَّا الانتماءُ إلى هُويَّةِ مجتمعِها، أو الانعتاقُ منه، نحو تبنِّي ثقافةِ "المستعمرين".
تدرس هذه الورقة تأثيرَ ارتباطِ بعض المنظَّمات غير الحكوميَّة ببرامج الدُّول المانحة و"الأجندات الخارجية" في نشوء النظرة "السوداويَّة" التي وَسمتْ بشكل عام تحليلَ دور المنظَّمات في تنفيذ برامج خفيَّة ذات آليات خاصَّة في اختراق المجتمعات المستهدفة، سواء عن قصد أو غير قصد. وتتوقَّف الورقة عند تأثير المزايا الثقافيَّة في تشكُّل هذه الرؤية والنظر للمنظَّمات بوصفها جزءًا من نسيج المجتمع الأصيل، أو جزءًا من آليَّات الحرب الناعمة في خدمة المصالح الخارجية، لدرجة احتمال الإسهام في عرقلة التغيير الحقيقي. فمع تسارع تطوُّر العولمة، تبرز علانية أدوار المنظمات "القاتمة" فيما يتعزَّز دورها باعتبارها فاعلًا "وكيلًا". ويحلِّل البحث حراك تشرين الأول من العام 2019، في لبنان، بوصفه حالة لدراسة التَّوظيف السياسي للمنظَّمات غير الحكومية في استهداف حركة المقاومة وممثلِّها السياسي في البرلمان اللبناني، "حزب الله"، ومقارنة فعاليَّتها بلحاظ دورها ما بعد معركة "أولي البأس".
نشطتْ في السَّاحةِ العراقيَّةِ عدد من المنظَّماتِ الغربيَّةِ الفاعلةِ، والتي أدَّتْ دورَها في تعزيزِ مفهومِ الهيمنةِ، من خلالِ المساحةِ التي تشغلُها بالفعاليَّاتِ والنشاطاتِ التي تؤدِّيها، سواء مباشرةً من قبَلها أو من خلال تعاونِها مع الجهاتِ المحلِّيةِ العاملةِ ضمنَ هذا المجالِ. بالتَّزامنِ مع وجودِ عملٍ مشتركٍ بينَ عدد من الدولِ الأوروبيةِ وأمريكا في هذا الجانبِ، بصفته تعبيرًا واضحًا عن وحدةِ الغربِ باعتباره منظومة ما يزالُ يتجذرُ فيها الفكرُ التوسعيُّ والاستعماريُّ.
تاريخ صدور القرار 1959، والانسحابِ السوريِّ من لبنانَ، واغتيالِ رئيسِ الحكومةِ الأسبق رفيق الحريري، وبحث الأسباب والعوامل والدوافع خلف هذا التطوُّر الاصطناعيِّ المموَّلِ والموجَّهِ أميركيًّا ودوليًّا، وأدوارها الوظيفيَّة والتنمويَّة والسياسيَّة، وصولًا إلى تشخيصِ خيوط التدخُّل الدوليِّ في أهدافها وبرامجها، وتحوُّلها إلى أحزابٍ سياسيَّة ومشاريعَ سلطةٍ لخدمة مخطَّطات أميركيَّة ودوليَّة، والتعقيدات التي واجهتها في ظلِّ شبكات الفساد والبنية الطائفيَّة للمجتمع والسلطة في لبنان. ويُعرِّج البحثُ على تداعياتِ قرارِ الرئيسِ الأميركيِّ (ترامب) بوقف التمويل للمنظَّمات غير الحكوميَّة من خلال وكالةِ USAID وتأثيره في لبنان.
ويسلِّطُ الضوءَ على الأدوارِ النَّاعمةِ التي تتولَّاها هذه المنظَّماتُ في إعادةِ تكوين الوعيِ والذَّوقِ العام، لا سيَّما في المجتمعاتِ المحافظةِ من خلالِ الشَّراكاتِ مع منصَّاتٍ مثلَ نتفليكس (Netflix)، وتيكتوك (TikTok)، ودعمِ محتوىً يتبنَّى مفاهيمَ مثلَ الجندرة، والحريَّة الفرديَّة، والتنوَّع القيمي.
يركِّز البحثُ في أنَّ التدخُّلَ الثقافيَّ ليس عفويًّا، بل يرتبطُ بشبكاتِ تمويلٍ دوليةٍ ويعتمدُ على أدواتٍ رقميَّةٍ مؤثِّرة مثل الخوارزمياتِ، والمحتوى القصيرِ، ما يؤدِّي إلى تحوُّلاتٍ تدريجيَّةٍ في القيمِ لدى فئاتِ الشبابِ وانقساماتٍ مجتمعيةٍ متزايدة. ويخلصُ البحثُ إلى أن هناك أهدافًا ضمنيَّةً وراءَ الخطابِ الحقوقي، تتعلَّقُ بإعادةِ هندسةِ الوعيِ المحلِّيِّ وتذويبِ الهُويَّاتِ الجمعيَّة. كما يناقشُ البحثُ التداعياتِ المجتمعيَّةَ والسياسيةَ من ردودِ أفعالٍ رافضةٍ، وصولًا إلى ردودِ أفعالٍ حكوميةٍ بين التطبيعِ والممانعةِ.
وقد نجحتْ هذه المنظَّمات إلى حدٍّ كبيرٍ في الغربِ في تطبيعِ هذه المفاهيمِ، لكنَّها واجهتْ مقاومةً دينيَّةً وثقافيَّةً في المجتمعاتِ المحافظةِ، سواء داخلَ الغربِ أو في العالمِ الإسلاميِّ. يهدفُ البحثُ إلى تحليلِ أدواتِ الهيمنةِ الثقافيَّةِ، ودراسةِ نماذجَ للمقاومةِ، وتقديمِ توصياتٍ تحصِّنُ المجتمعاتِ من هذا التغلغلِ القيميِّ.
والعملُ التطوُّعيُّ عبارةٌ عن جهدٍ يبذلُه الإنسانُ بكاملِ رغبتِه وإرادتِه واختيارِه، بهدفِ جلبِ المصلحةِ أو المنفعةِ للآخرِ، أو درءِ المفسدةِ ورفعِ الضَّررِ عنه، عن رضا ومحبَّةٍ ودونَ مقابلٍ ماديٍّ أو معنويٍّ، بقصدِ التَّقرُّبِ إلى الله.
ويمكنُ تحديدُ غايةِ العملِ التطوُّعي في الإسلامِ بتأسيسِ ثقافةِ أعمالِ البرِّ التبرُّعيِّ والخيرِ المطلقِ في المجتمعِ الإسلاميِّ، وتكريسِ ثقافةِ التَّكافلِ الاجتماعيِّ الطَّوعيِّ، وإيجادِ التَّماسكِ الاجتماعيِّ والأسريِّ، وإصلاحِ أحوالِ النَّاسِ. ولقد وردَ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ الكثيرُ من التَّشريعاتِ أو الأعمالِ المرتبطةِ بمصاديقِ العملِ التطوُّعيِّ أو التي تؤسِّسُ للعملِ التطوُّعيِّ أو لها صلةٌ مباشرةٌ أو غير مباشرةٍ به. ومن التَّشريعات التي تهيِّئ أرضيَّةَ العملِ التطوُّعيِّ: الهديَّةُ أو الهبةُ، الصَّدقاتُ المستحبَّةُ، الوقفُ الخيريُّ، الوصيَّة، العاريةُ، الصَّدقةُ الجاريةُ.
قد تكون التكنولوجية وأدواتها والبحث العلمي وأنواعه من بين أكثر الأدوات إنتاجا للمصطلحات، ولكن تقوم الإيديولوجية بإنتاج وإبداع مصطلحات فكرية ومعرفية بتداعيات تستجيب لمتطلبات العلاقة القائمة بين البيئة والعقول المتعايشة فيها. وترتبط المصطلحات بوظائف حيوية في المجتمع من أهمها تلك التي تقترن بتنشئة الأجيال على أنماط فكرية تتفاعل فيه الدلالات الإيديولوجية لنحت المعنى والمطالب المعرفية لمشروع بناء العقل والذات الجماعيين في المنظومة الفكرية والسوسيولوجية. عملية توليد المصطلحات من بين أهم الاستراتيجيات الثقافية للتطبيع الاجتماعي للأجيال بسبب التداول الفكري والمعرفي للمصطلحات التي تنشرها الأوعية الإعلامية في البيئة العامة التي تشكل أكبر وعاء للانتشار.
إنَّ برامجَ التلفزيون وأفلامَه ومسلسلاتِه أداةٌ فعَّالةٌ جدًّا لخلقِ سيناريوهاتٍ تدعمُ رؤيتَها السياسيَّةَ، وتروِّجُ لصورةٍ إيجابيَّةٍ عنْ أنشطتِها. يكشفُ هذا الكتابُ بعضًا من تاريخِ الوَكالةِ وكيف تعاونت مع هوليوود في صناعةِ ترفيهٍ يخدمُ مصالحَها، ويجذبُ العملاءَ لها، ويبرِّرُ سرِّيتَها المُبالغ بها، سواء بتقديم الدَّعمِ الماديِّ لإنتاجِ الأفلامِ والمسلسلاتِ أو من خلالِ تقديمِ مَشوراتٍ فنِّيةٍ أو معلوماتٍ اسْتخباراتيَّةٍ تسهمُ في تشكيلِ تصويرِ الواقعِ السياسيِّ، حسب ما يخدمُ مصالحَ الوَكالةِ.
اضافةتعليق