أوَّلُ الكلامِ: أقنعةُ العطاءِ: الهيمنةُ بوجهٍ إنسانيٍّ

شارك الموضوع :

شهدتِ العقودُ الأخيرةُ تصاعدًا لافتًا في حضورِ منظَّماتِ المجتمعِ المدنيِّ في الفضاءِ العربيِّ، إلى الحدِّ الذي تحوَّلت فيه هذه المنظَّماتُ إلى لاعبٍ مؤثِّر في السِّياسةِ والاقتصادِ والثَّقافةِ وصياغةِ الوعيِ العامِّ.

 ورغمَ ما تُقدِّمه من خدماتٍ ومبادراتٍ قد تبدو في ظاهرِها إنسانيَّةً وتنمويَّةً، فإنَّ التمعُّنَ في نشأتِها وتطوُّرِها وأدواتِ عملِها يكشفُ عن حقيقةٍ أكثرَ تعقيدًا من الصُّورةِ النمطيَّةِ الرَّائجةِ.

ذلك أنَّ المجتمعَ المدنيَّ ليس اختراعًا بريئًا نشأ في الفراغِ، بلْ هو ثمرةُ منظومةٍ فكريَّةٍ وتاريخيَّةٍ تعكسُ مسارَ تشكُّلِ الدَّولةِ الحديثةِ في الغربِ ورؤيتِها لدورِ الأفرادِ والجماعاتِ. ومع موجةِ العولمةِ الليبراليَّةِ، جرى تكييفُ هذا المفهومِ، وإعادةُ توظيفِه كأداةِ نفوذٍ ناعمٍ يُعادُ عبرها ترتيبُ أولويَّاتِ المجتمعاتِ الأخرى، وصياغةُ قيمِها وفقَ مقاساتٍ محدَّدةٍ سلفًا. وقد تجلَّى هذا التَّوظيفُ بوضوحٍ في البلدانِ العربيَّةِ التي دخلتْها منظَّماتُ المجتمعِ المدنيِّ، مدعومةً بتمويلاتٍ ضخمةٍ وخطاباتٍ جاهزةٍ، لتصبحَ أحيانًا امتدادًا لمشاريعَ خارجيةٍ تلتقي عند هدفٍ جوهريٍّ، وهو إعادةُ تشكيلِ العَلاقةِ بين الدَّولةِ والمجتمعِ على نحوٍ يحقِّقُ الهيمنةَ بأكثرِ صيغِها سلاسةً واستدامةً.

من هنا، فإنَّ البحثَ حولَ هذه المنظَّماتِ لا ينطلقُ من عداءٍ مبدئيٍّ لفكرةِ التَّنظيمِ المدنيِّ، وإنَّما من رغبةٍ في استعادةِ الفاعليةِ الأصيلةِ لهذا المجالِ، وتحريرِه من التبعيَّةِ القيميَّةِ والوظيفيَّةِ. فالأسئلةُ الحقيقيَّةُ التي ينبغي طرحُها تتعلَّقُ بمنظومةِ المصالحِ والقيمِ والسُّلطاتِ التي تتحرَّكُ خلفَ الواجهةِ اللامعةِ لمنظَّماتٍ تدَّعي الحيادَ والإنسانيَّةَ.

اضافةتعليق


ذات صلة

مجلة «أمم للدراسات الإنسانية والاجتماعية»، مجلة علمية فصلية مُحكّمة، تصدر عن «مركز براثا للدراسات والبحوث» في بيروت/لبنان.
جميع الحقوق محفوظة © 2023, امم للدراسات الانسانية والاجتماعية